(الوباء – 12)
سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)
هل الوباء رحمة من الله ، أو عذاب من الله
قد ورد وصف الوباء والطاعون بالوصْفين كليهما، وذلك صحيح ، وكل وصف باعتبار معيّن.
فهو رحمة باعتبار المؤمنين وما يحصل للصابر منهم ، والراضي بقدر الله ، والمحتسب ، من الثواب وأجر الشهادة.
وهو عذاب باعتبار الكافرين ، إذ هو عذاب مقدّم لهم في الدنيا كما قال تعالى: ﴿ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر﴾.
وقد ورد في هذا عدة أحايث منها:
- ما أخرج البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» .
- وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا، فِرَارًا مِنْهُ».
وفي لفظ في الصحيحين قَالَ: «إن هذا الوجع أو السقم رِجْزٌ، أَوْ عَذَابٌ، عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ قبلكم، ثُمَّ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ بالأرض، فَيَذْهَبُ المَرَّةَ وَيَأْتِي الأُخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ ...».
وفي لفظ لمسلم «الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ، ابْتَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ». وفي لفظ له: «إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ سُلِّطَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَوْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ». وفي لفظ له: ««هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ».
- وفي المسند (29/ 290) (17755) من حديث شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه قال: إِنِّي قَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ ، وَأَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، فَاجْتَمِعُوا وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْهُ».
- وفي المسند أيضًا - وهو من ثلاثياته الإمام أحمد - قال رحمه الله (34/ 366/ 20767 ) : حَدَّثَنَا يَزِيدُ (هو ابن هارون) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو نُصَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَسِيبٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه قال: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي، وَرَحْمَةٌ، وَرِجْسٌ عَلَى الْكَافِرِ». سنده صحيح.
من كلام الشراح على معاني الأحاديث:
قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري : «قوله: «على من شاء» : أي من كافر أو عاص كما تقدم في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام . قوله : «فجعله الله رحمة للمؤمنين» أي من هذه الأمة . وفي حديث أبي عسيب عند أحمد «فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر» وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين ، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة». انتهى.
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (9/ 427): «هذا الحديث مثل قوله: (الطاعون شهادة) ، (والمطعون شهيد) وهو للصابر عليه المحتسب أجره على الله، العالم أنه لم يصيبه إلا ماكتب الله عليه، ولذلك تمنى معاذ بن جبل أن يموت فيه ، لعله إن مات فيه فهو شهيد، وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفرَّ منه فليس بداخل فى معنى الحديث».
وقال النووي في شرح مسلم : «وجاء في هذه الأحاديث أنه أرسل على بني إسرائيل أو من كان قبلكم عذابا لهم هذا الوصف بكونه عذابا مختص بمن كان قبلنا ، وأما هذه الأمة فهو لها رحمة وشهادة ، ففي الصحيحين قوله ﷺ «المطعون شهيد» . وإنما يكون شهادة لمن صبر كما بينه في الحديث .
وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فرارًا من ذلك ، أما الخروج لعارض فلابأس به وهذا الذي ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور ... والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة . قال العلماء : وهو قريب المعنى من قوله ﷺ «لاتتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا» وفي هذا الحديث الاحتراز من المكاره وأسبابها ، وفيه التسليم لقضاء الله عند حلول الآفات والله أعلم . واتفقوا على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار ، ودليله صريح الأحاديث».
وقول النووي: «مختص بمن قبلنا»، يعني الحديث الذي يشـرحه هو، وإلا قد ثبت أنه عذاب على الكافرين عموما كما سبق الحديث، وفي الذي قبله: «على مَن يشاء».
إشكال وجوابه
قد قُرن (الطاعون) في الحديث الصحيح : بالدجال، وأنه لا يدخل المدينة. على سبيل المدح؟
قال ابن حجر: «ووجْه الإشكال : أنه إذا كان شهادة ورحمة ، فكيف قُرن بالدجال؟ و كيف مدحت المدينة الشريفة بأنه لا يدخلها؟ .
والجواب عن ذلك : أنَّ كونه شهادة ورحمة ليس المراد بوصفه بذلك : ذاته، و إنما المراد : أنَّ ذلك يترتب عليه و ينشأ عنه ، وأنه سببه . و إذا تقرَّر ذلك واستحضر ما تقدم من أنه -أي الطاعون- «طعن الجن» ، ظهر مدح المدينة بأنه لا يدخلها». بذل الماعون ( 205).
إشكال آخر وجوابه
قد ثبت في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أقبل علينا رسول الله ﷺ فقال : «يا معشـر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تُدْرِكوهن : لم تظهر الفاحشةُ في قوم قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فَشَا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوْا ».
وفي المسند عن ابن مسعود رفعه: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا، إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» وفيه عن ميمونة مرفوعًا: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا، فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا، فَيُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِقَابٍ» إسنادهما ضعيف، وهما في الباب، لا بأس بهما في الشواهد.
قال ابن حجر: «وتقرير الإشكال من هذه الأحاديث : أنَّ سياقها يقتضي أن الله تعالى أوقع الطاعون عقوبة لمرتكب المعصية فكيف يكون له شهادة ورحمة.
و الجواب : أنه لا منافاة بينهما ؛ فإنَّ رحمة الله تعالى بهذه الأمة المحمَّدية أنه عجّل لهم عقوباتهم في الدنيا . ففي حديث أبى موسى رضى الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : «أمتى أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن و الزلازل و القتل». أخرجه أبو داود بسند حسن» .
قلت: الحديث في الصحيحة (2/648 ، 724).
قلت: ولا يمنع أنْ يكون هو بحدّ ذاته عقوبة لما كسبْته أيدي العصاة من الناس كما في الآيات المتكاثرة، وقد ذكرت ذلك في (المقال : 9) ويكون رحمة باعتبار ما هو سبب له، وما ينشأ عنه. كما مضـى في جواب الإشكال السابق.
ثمَّ قال ابنُ حجر في البذل (214-216): «وأخرج أبو يعلى أيضًا بسند صحيح من رواية أبي مالك الأشجعى عن أبى حازم عن أبي هريرة – موقوفًا عليه - رضى الله عنه قال : (إنَّ هذه الأمة أمة مرحومة ، لا عذاب عليها إلا ما عذّبت به أنفسها ) قلت : و كيف تعذب أنفسها ؟ قال : (أما كان يوم النهر عذاب ؟ أما كان يوم الجمل عذاب ؟ أما كان يوم صِفّين عذاب).
قلت: وهذا معنى حديث أبى موسى : (عذابها في الدنيا الفتن و الزلازل و القتل) فهو شاهد قوى له ومثله لا يقال بالرأى وهو محمول على معظم الأمة المحمدية لثبوت أحاديث الشفاعة ؛ أن قومًا : ( يعذبون ثم يخرجون من النار و يدخلون الجنة ).
لكن الغرض أن كون الطاعون من انتقام الله تعالى بسبب هتك حرماته ؛ لا ينافي أن يكون شهادة و رحمة في حق جميع مَن طعن لا سيما و أكثرهم لم يباشر الفاحشة المذكورة . لكن لعلَّه إنما عمهم العقاب :
- لتقاعدهم عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتخاذلهم عن نصيحة بعضهم بعضًا ، أو تدنس ذوى العفة منهم بأنواع المعاصى غير الفاحشة حتى صارت كلمتهم لا تسمع وموعظتهم لا تقبل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
- وإما أن يكون لزيادة حسنات من لم يباشر الفاحشة و لم يقصّر فيما يجب عليه من الأمر والنهى كما ثبت في الحديث الآخرعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: «إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمله فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها» . صححه ابن حبان . وله شاهد عند أبى داود.
فهذا جاء فيمن يكون له الطاعون شهادة ورحمة.
بخلاف غير هؤلاء فلا يكون لهم ذلك إلا مجرَّد عقوبة.
[ثم ذكر رحمه الله أحوال الناس وأصنافهم زمان انتشار الوباء والطاعون، فقال]
ومِن ثمَّ تجد الكثير ممن اتصف بالصفة المذكورة - أي أهل المعاصي وانتهاك الحرمات - : يشتدّ قلقُه ، ويكثر تضجُّره و تكرُّهُه، ويتحيَّل بوُجوه من الحِيل في دفعه بأنواع من الأشياء التى يقال : إنها تدفعُه ؛ كالرقى و الخواتم و البخورات و العُوذ التى تعلق في الرؤوس و تكتب على الأبواب والتلبّس بأنواع من الطّيَرة التى نَهى الشارع عنها، والحمية عن كثير من المأكولات وغيرها وإحالة الأمر على الهواء والماء ، من غير نظر إلى سببه الحقيقى و مادته الصحيحة ، والتجنب لحضور الجنائز، التي ترقق القلب وتستجلب الدمع وتورث الخشية ، إلى غير ذلك مما يحرُم صاحبه ثوابَ الصبر و الاحتساب الذى رتبت الشهادة على حصوله .
و أكثرهم يموت بغير الطاعون في زمن الطاعون، فتفوته درجة الشهادة ، و يخرج من الحياة الدنيا راغمًا. لكن مَن ختم له بالوفاة على الإسلام ، قد حصَلَت له النجاة من الخلود في النار .
ونجدُ كثيرًا من أهل الخير بخلاف الصفة المذكورة وهم مراتب:
- منهم من نجده مستبشرًا كما وقع للسلف مثل معاذ رضى الله عنه و غيره .
- ومنهم من نجده مسلمًا مفوضا راضيًا ، وإن كان لا يحب أن يموت ؛ كما هو مركوز في الطباع .
- ومنهم من يكون كذلك لكن يكون أسرف على نفسه فهو خائف مِن أنْ يهجم عليه الموت قبل أن يتخلص من التبعات . فنسأل الله العفو والعافية بمنّه وكرمه».
قال ابن حجر في آخر البحث: «ففي هذا أوضح البيان : أنَّ تسمية الطاعون (عذابًا) و (رحمة) لا تَنَافيَ بينهما، لحمل كل من الوصفين على اعتبار آخر».
كتبه
أبو محمَّد عبدالله بن أحمد بن لمح الخولاني
مكة المكرمة . 24 شعبان عام 1441 هـ